الخميس 07 نوفمبر 2024 | 10:05 مساءً
عبد السلام الخـالدي
قدمت إلى الدوحة للدراسة في جامعة قطر مطلع عام 1983، حين كانت الجامعة تستقر في مدينة خليفة، وكانت الدوحة حينها وادعة، تحتضن السكينة وتفرد أشرعة الهدوء، بينما تضج أطراف الخليج بأصوات الحرب المشتعلة بين العراق وإيران.
سكناي الجامعي كان في حي السد، وكان جار غرفتي شاعرًا عمانيًا كبيرًا، هو محمد الحارثي - رحمه الله - الذي، رغم دراسته في كلية العلوم، أسَرَهُ الشعرُ وغمره بروحه الرمزية. كان يقرأ لي نصوصه الحداثية الغنية بالرموز، وفي لحظات عابرة اكتشفت أن مجلة الدوحة، المجلة الثقافية العربية الشهيرة في تلك الحقبة، لا تبعد سوى خطوات عن مسكني. كانت المجلة تحت إدارة الأديب المصري الكبير رجاء النقاش، وفي الجوار القريب منها، كان الروائي السوداني الكبير الطيب صالح، يشغل منصب المدير الإقليمي لليونسكو في الخليج، وتربطني به معرفة تجمعها شغف الثقافة وحب الأدب.
صادقت في تلك المجلة أديبًا سودانيًا آخر، هو النور أبكر، طويل القامة وفائق الكرم. فتح لي النور باب عالم الثقافة العربية المتنامي، فنقلني إلى عوالم من الفكر والجمال، حيث تعرّفتُ على أسماء عربية مرموقة كانت الدوحة تستضيفها في نشاطات ثقافية متعددة، ينظمها نادي الجسرة وجامعة قطر. وكانت لدراستي في قسم اللغة العربية، وبالأخص في تخصص الصحافة، دور في تغذية فضولي الثقافي وفتح شهيتي لاستكشاف هذه الولائم الأدبية التي تُقدَّم بسخاء.
جامعة قطر، بقيادة الخبير المصري الراحل الأستاذ محمد إبراهيم كاظم، وضعت خطة دراسية ناجحة لتأهيل الطلاب، واستقطبت نخبة من أساتذة اللغة والأدب من شتى أنحاء العالم العربي، مثل أستاذ الأدب الجاهلي، الدكتور يحيى الجبوري، الذي كان يعيد تجسيد قصائد الجاهلية بتصوير سينمائي حافل بالجمال.
إلى جانب ذلك، تميّزت الجامعة برؤية شمولية، حيث أتاحت لنا دراسة اللغة الفارسية، ما فتح نافذة على تاريخ وثقافة عريقة تشكل جزءًا أصيلاً من التراث الإقليمي. وكان الدكتور فؤاد الصياد، أستاذ اللسانيات الشرقية، يتولى تدريسها، وكنتُ أجد في هذه اللغة جمالاً خاصًا لا سيما أنها تُكتب بالأحرف العربية.
كانت الدوحة آنذاك تملك ذراعًا إعلاميًا مؤثرًا هو وكالة الأنباء القطرية (قنا)، التي، تحت إدارة رئيسها الذهبي علي بن سعيد الكواري، كانت توصل هذا الحراك الثقافي النشط إلى مختلف أنحاء العالم العربي. كما كانت المجلة الرياضية الصقر، التي ترعاها قطر آنذاك، تلعب دورًا بارزًا في تعزيز الحركة الرياضية.
عشتُ ودرست في قطر قبل أن تبدأ مسيرة التغيير الكبرى التي قادها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ومن وجهة نظري، كان التحوّل الأبرز هو ذلك الذي طرأ على المواطن القطري، بفضل النظام التعليمي المتطور الذي جعل الفارق شاسعًا بين مستويات المهارات قبل عام 1995 وما هي عليه اليوم. وهذا ما يتجلى في التصنيفات العالمية الحديثة التي وضعت قطر في المرتبة الرابعة عالميًا والأولى عربيًا في التعليم.
لقد كانت المؤسسات الثقافية في قطر، منذ تولي الشيخ حمد بن خليفة الحكم، في طليعة الحراك الاجتماعي، ومعها أعيد بناء سوق واقف التراثي، وأصبح ملتقى للفرح وميدانًا للاحتفاء بالمناسبات الكبرى. كما جاءت كتارا كحي ثقافي شامل، لتضفي بُعدًا جديدًا للحياة الثقافية في الخليج.
وإذ تتجه دول الخليج اليوم نحو احتضان الثقافة وإنشاء مؤسسات وهيئات ثقافية ومتاحف، إلى جانب الحضور المتنامي للمثقفين الخليجيين في المشهد العربي، أرى أن الوقت قد حان للاحتفاء بهذا الزخم عبر أولمبياد ثقافي خليجي. فعلى غرار دورة الخليج لكرة القدم، يمكن لهذا الأولمبياد الثقافي أن يصبح حدثًا سنويًا يجمع بين دول الخليج ويكرّم المؤسسات والمثقفين الذين يساهمون في إثراء الثقافة العربية.
0 تعليق